إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخاص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا " وأن المساجد لله فلا تعبدوا مع الله أحداً " ، وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الإنسان العابد لله تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " الأنعام 162 –163 0 وبما أن العلم في الأساس شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل ، فلا بد إذاً من أن يقوم المسجد بدور نشر العلم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً 0 وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى ، وحث رسول الله على هذا الدور العلمي لقوله ( من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه ) أخرجه الطبراني ، وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبينه في حديثه ليفرق بينه وبين العبد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد 0 ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء ، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : قالت النساء للنبي : ( غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ) 0 وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة وقد أعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت : ( نِعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين ) 0 وكان رسول الله يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف خاصة في بواكير الصباح حيث حدّث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله مر بمجلسين إحداهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه علم ، فأقرهما وقعد في مجلس العلم وشجع رسول الله استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية ، ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله : خطّ لنا رسول الله خطاً بيده ثم قال : ( هذا سبيل الله مستقيماً ) وخطّ عن يمينه وشماله ثم قال : ( هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ) ثم قرأ " وإنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الأنعام 153 0 ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله لحثّ على استعمالها ، وكان أول من يستعملها 0 واستمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل ، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة ، والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف – وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها ألف عام – مثل جامع عمرو بن العاص ،قلب الفسطاط الفكري ، ومهد الحركة العلمية في مصر ، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية ، والجامع الأموي في دمشق ، وجامع المنصور ببغداد ، وجامع القروين في فاس بالمغرب الذي أمتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس فيه ، وكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية ، وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين ، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العلم ،، أما جامع الزيتونة في تونس فقد أبدع في شتى مجالات العلم النقدية والعقلية ، وضمت مكتبته العامرة ما يزيد عن مائتي ألف مجلد وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرّس فيها العلوم المختلفة ، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة 0واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها ، وأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه ، وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد – بمفهومه الشامل – أجيالاً ستضل معجزة العالم ومفخرته ، ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية ، حيث كونت أساس النهضة العلمية والصناعية 0